-->
U3F1ZWV6ZTczODgxNjA1NzJfQWN0aXZhdGlvbjgzNjk3NjY4OTI5

المحاكمة العادلة في إطار العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية

المحاكمة العادلة في إطار العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية
المحاكمة العادلة 

مقدمـــــة


         يُقصد بحقوق الإنسان جملة من الحقوق اللصيقة بالشخص الإنساني و التي نصت عليها المواثيق الدولية و التي يتمتع بها الإنسان ولا يجوز بأي حال تجريده منها لأي سبب كان و بصرف النظر عن جميع مظاهر الاختلاف سواء في الدين أو اللغة أو العرف أو الجنس.  و إن التتبع التاريخي لحقوق الإنسان يثبت لنا أنها سابقة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 1948، لأن الديانات القديمة    و التراث البشري كرس بصفة عامة جملة هذه المبادئ التي تقوم على العدل و الإنصاف و مبادئ الرحمة.
           غير أن الحديث عن المعنى المعاصر لحقوق الإنسان يقصد به مجموعة المبادئ الملزمة التي اتفقت عليها الإنسانية بعد الانتهاء من الحرب العالمية الثانية و عملت على الالتزام بها في القوانين الدولية و الداخلية، و تحولت مفاهيم حقوق الإنسان في العصر الحديث من  قيم فاضلة إلى التزامات قانونية الواجب التقيد بها، و مخالفتها ترتب المسؤولية على المستوى الدولي و الإقليمي و الوطني،      ولعل من أهم المبادئ التي يضمها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هي حق المتهم في المحاكمة العادلة. و تبدأ مراحلها من تاريخ إيقافه مرورا بمرحلة احتجازه قبل المحاكمة و الاحتفاظ به أثناءها إلى غاية استنفاذ جميع طرق الطعن الممكنة قانونا في الأحكام الصادرة ضده. و تعد المحكمة العادلة من أسمى مبادئ حقوق الإنسان.
             و لقد عُرِّفت المحاكمة العادلة بأنها أحد الحقوق الأساسية للإنسان و تقوم على توافر مجموعة من الإجراءات التي تتم بها الخصومة الجنائية في إطار حماية الحريات الشخصية و غيرها من حقوق الإنسان و كرامته و شخصيته المتكاملة. وقد سارعت معظم الدول إلى تكريس هذا المبدأ في نظمها القانونية بغية ضمان المحاكمة العادلة للمتهم لكونه إنسان.
     ويشكّل الحق في المحاكمة العادلة أحد الأعمدة الأساسية لدولة القانون و مقياسا أصيلا في بنائها، كما تمثّل معايير المحاكمة العادلة، في حال تمّ الالتزام بها، أهم الضمانات التي تؤدي إلى حماية الإنسان من التمييز والاعتداء على إنسانيته وكرامته وحريته في مواجهة السلطة ".
و بهذا المعنى فهي نموذج شامل أو ذات مفهوم شمولي و كوني و ينبغي فهمها في مختلف أقطار العالم فهما موحدا، أو على الأقل التقليص من الفوارق في تطبيقها لأكبر مدى.
و من خلال تتبع التطور التاريخي لضمانات المحاكمة العادلة نجد أنه باستثناء الشريعة الإسلامية التي كانت سباقة إلى تبنّي ضمانات المحاكمة العادلة مِصداقا لقوله تعالى : "و ماكنا مُعذبين حتى نبعث رسولا "، صدق الله العظيم، و الذي يُمثل بحق مضمون مبدأ الشرعية الجنائية  "لا جريمة و لا عقوبة إلا بنص"، و كذا من خلال قوله تعالى : " يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيَّنوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحون على ما فعلتم نادمين"، صدق الله العظيم، و الذي يشكل دلالة على ضرورة التحري والبحث والإتيان بالحجة الدامغة للتصريح بالإدانة أو البراءة في إطار القناعة الوِجدانية للقاضي الجنائي، على اعتبار أن تبرئة مائة متهم خير من إدانة بريء، فإن جل القوانين القديمة جاءت خالية من أية إشارة إليها، الشئ الذي انعكس بالتبعية على العملية الزجرية التي تميزت بعدم المساواة بين المتقاضين (طبقة النبلاء و عامة الشعب) و بالقسوة و استعمال أساليب التعذيب.
لكن، مع بروز عصر الأنوار و تطور الفكر البشري، بدأت ضمانات المحاكمة العادلة تجد مكانها شيئا فشيئا في الدساتير و القوانين الوضعية و تترسخ فيها.
لكن هاجس الحفاظ على الأمن الذي لطالما تذرعت به الدول لخرق أبسط ضمانات المحاكمة العادلة، كان دافعا للارتقاء بهذه الضمانات لتأخذ صفة و بعدا دوليين و تجد لها بالتالي مكانا متميزا بين سطور عدد من الاتفاقيات و المواثيق الدولية التي تُعنى بحقوق الإنسان سواء ذات الطبيعة العالمية كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948، و العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية لسنة 1966، أو ذات الطبيعة الإقليمية كالميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان و الشعوب لسنة 1981 والاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان سنة 1969، و الاتفاقية الأوربية لسنة 1987 الخاصة بمنع التعذيب و المعاملة أو العقوبة اللإنسانية أو المِهنية...، على أننا سنقتصر من خلال هذا العرض، على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية، ذلك أن هذا العهد ارتقى بهذه الضمانات من عدم الإلزامية - مع الصكوك الدولية السابقة عنه - إلى الإلزامية.
و باستقراء مواد هذا العهد المتعلقة بضمانات المحاكمة العادلة نستشف أنها تشمل كافة أنواع المحاكمات (مدنية، جنائية، عسكرية،...)،  كما أنها في الميدان الجنائي غير قاصرة على مرحلة المحاكمة، بل تشمل مرحلة ما قبل المحاكمة وتمتد لما بعدها.
و منه فإن أهمية هذا الموضوع تتجلى في كون الحق في المحاكمة العادلة لم يعد مجرد حق معترف به في القانون الوطني، ولكنه أصبح حقا دوليا تُلزم الدول بالاعتراف به وتنظيمه، وفقاً لضوابط ومعايير محددة، تمثل ضمانات دنيا لا يجوز إهدارها أو الإخلال بها في جميع أنواع المحاكمات ، و إلا اعتبرت الدولة منتهكة لحق من حقوق الإنسان، كما يجد هذا الموضوع أهميته أيضا في كون هذه الضمانات جاءت لتقيم التوازن ما بين حق الدولة في العقاب و البحث عن مرتكبي الجرائم و التحقيق معهم و تقديمهم للمحاكمة و بين حق الفرد في صون كرامته و عدم امتهان إنسانيته و تمكينه من الدفاع عن نفسه خلال مختلف مراحل المحاكمة و منع أي تجاوز أو تعسف قد يحصل خلالها.

وعلى ھدى مما سبق، تتمحور الإشكالية موضوع هذا العرض، في مدى توفق واضعي العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، في توسيع نطاق ضمانات المحاكمة العادلة لتشمل من جهة جميع أنواع المحاكمات، و من جهة أخرى جميع مراحل المحاكمة.

ولغرض معالجة هذه الإشكالية، والإحاطة بكل جوانب الموضوع وما یثیره من تساؤلات فرعیة، ارتأینا تقسیم ھذا الموضوع على النحو التالي :
المطلب الأول:  ضمانات المحاكمة العادلة العامة المشتركة بين مختلف المحاكمات
المطلب الثاني: ضمانات المحاكمة العادلة الخاصة بالمحاكمة الجنائية



----    التالي>

الاسمبريد إلكترونيرسالة