بحث لنيل شهادة الماستر الضوابط الشكلية والموضوعية للتعديل الدستوري في المغرب
مقدمة
تعد
الدساتير أساس الحياة القانونية للدول، فلا يتخيل وجود دولة حديثة بدون دستور ينظم
شؤون الحكم وقواعده، فهو بمثابة القانون الأساسي الذي يرتكز عليه نظام الحكم،
فيقوم بوضع القواعد ويرسم الحدود فيما بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية
والقضائية وفقا لمبدأ المشروعية، ويبين كيفية ممارسة الحقوق والحريات وفق نصوصه
بلا تفريط ولا إفراط وإذا كان الدستور هو الوثيقة الأسمى في الدولة التي تحدد نظام الحكم وتنظم عمل السلطات فيها، وتكفل حقوق الأفراد والجماعات وتجسد
تطلعات الشعب، فإنه يبقى في صيرورة فكرية وعملية مستمرة مستجيبا بشكل أو بآخر
لمتطلبات التطور مع تأكيد ثباته كقواعد قانونية ملزمة ، ومستوعبا حركة التاريخ
ومتطلبات التقدم، ذلك أنه من البديهي أن ما لا يتناهی مثل (الحوادث والوقائع) لا
يضبطه مايتناهی مثل (نصوص الدستور والقانون). فقد نجحوادث وتنشأ حاجات غير التي عاصرت كتابة الدستور وبالتالي تتطلب حكما جديدا أو تلزم بإلغاء حكم قائم، كما أن المخولين بكتابة الدستور مهما أوتوا من حظ في استشراف المستقبل يعصي عليهم التنبؤ بما سيطرأ في قادم الأيام، والدستور قد يلابسه
بعض الأخطاء المادية والأغلاط اللغوية وبقاؤها يؤدي إلى ترتب بعض الآثار مما لا
يقصدها الدستور. فتباين الألفاظ والمعاني يؤدي إلى تباين المصطلحات، وتغاير
الأسماء يؤدي إلى تغاير المسميات واختلاف العبارات يؤدي إلى اختلاف الاعتبارات
ولما كان الدستور بمدلوله السياسي والقانوني هو احد مقومات الدولة الديمقراطية ودولة القانون، كما أن الأصل فيه أن يوضع من أجل أن يبقى ويدوم، كان لا بد من إيجاد وسيلة لضمان هذا البقاء والدوام من جهة، ومواكبة التطورات والمستجدات الطارئة من جهة أخرى، فنجاح الدستور يقاس بطول بقائه حيا وتنظيمه للمجال السياسي تنظيما حسنا يفيد أكبر مشاركة سياسية. ومن أجل الحرص على ديمومة الدستور وصيرورته ثقر له إجراءات وقواعد قد تسهل وقد
تتعقد حسب الفلسفة المنتهجة من قبل المؤسس الدستوري الذي يواجه في كل نظام خاصية
مهمة لصيقة بطبيعة المجتمعات وهي التغيير المستمر. وما دام المجتمع يعرف تغييرا
مستمرا يجب أن يحيط الدستور بأوجه هذا التغيير باتباع أساليب مختلفة للتعامل مع
هذا التغيير. لذلك نجد أنه يستلزم أحيانا إلغاء الدستور واستبداله بدستور جديد،
وهذا يحدث في أعقاب الحروب أو مواجهة الثورات والانقلابات، وأحيانا أخرى يلزم فقط
تعديل الدستور. إن الدستور الصالح هو الذي يتماشى مع التطورات التي يعرفها المجتمع
وعلى هذا يتوجب على المؤسس الدستوري أن يترفع على المعطيات الآنية والأهواء
والميول الشخصية عند تحرير الوثيقة الدستورية وذلك لضمان ديمومته واستقراره
وثباته. ولا نكاد نجد أي دولة في العالم لم تعرف في تطورها أزمات دستورية ولو
بدرجات وكيفيات مختلفة ومتفاوتة، فتلجأ إلى تنقيح دستورها وإضافة بعض المبادئ الجديدة
تماشيا مع التطور الذي يعرفه المجتمع في جميع الحالات.
لكن هذا
التنقيح والتعديل لا يتم بشكل عادي كما تعد القوانين العادية، فالدستور هو أسمى
قانون في الدولة ولا يمكن أن يتم تعديله بنفس طريقة تعديل القوانين العادية، فهو
يخضع في تعديل نصوصه لمساطر وإجراءات خاصة ومعقدة، كما تختص بتعديله هيئات خاصة
تناط بها مهمة التعديل الدستوري، وتختلف هذه المساطر والهيئات من دولة إلى أخرى
ومن دستور إلى آخر. والفقه الدستوري عندما يتحدث عن هذه الإجراءات والمساطر
والهيئات فإنه يتناول التعديل الدستوري من جانبه الشكلي، ما نسميه نحن في بحثنا
هذا بالضوابط الشكلية للتعديل الدستوري.
وإذا اتفقنا على أن نصوص الدستور هي قابلة مبدئيا لعملية التعديل، فإنه لا يجب أن نغفل عن بعض النصوص والقواعد الدستورية الهامة التي ترتبط ارتباطا مباشرا بشكل النظام السياسي مثلا أو بهوية الشعوب التي لا يمكن أن تشملها عملية التعديل الدستوري ، ويطلق عليها فقهاء القانون الدستوري "النصوص المحظور تعديلها"، لأنه يحظر على سلطة التعديل الدستوري المساس بها بالتعديل، ونسميها نحن في هذا البحث بالضوابط الموضوعية للتعديل الدستوري. فالتعديل
الدستوري بشكل عام تحكمه ضوابط شكلية وموضوعية، ولا يمكن إجراء تعديل دستوري دون
الاحتكام إلى هذه الضوابط التي غالبا ما تكون مدونة في الدستور نفسه. ويعتبر موضوع التعديل الدستوري الذي يرجع ظهوره
إلى ظهور الدستور حيث استقر هذا المفهوم باستقرار الدساتير، وهو من موضوعات الساعة الهامة والحيوية التي تطرح نفسها وبقوة على الساحة السياسية والقانونية، حيث شهد العالم وخاصة في الربع الأخير من القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين
تطورات هائلة في مجال إعداد وتعديل الدساتير الوطنية بما يتلاءم مع أسس
الديمقراطية ومتطلبات ومستجدات القانون العام. وبالرجوع إلى التاريخ الدستوري المغربي وعلى غرار باقي الدول العربية شهد المغرب ومنذ استقلاله حركة دستورية اتسمت بالديناميكية وذلك عبر مختلف مراحل التطور الدستوري منذ أول محطة دستورية سنة 1962 إلى غاية أخر دستور سنة 2011. والدساتير
المغربية الستة المتعاقبة دساتير 1962، 2011 ، 1996 ، 1992 ، 1972 ، 1970
) كلها نصت على مجموعة من الضوابط الشكلية
والموضوعية لعملية التعديل الدستوري، اختلفت نسبيا من دستور لآخر ، لكن التاريخ
الدستور المغربي لم يعرف تعديلات الدستور بالمعنی الذي نقصده إلا نادرا أهمية
الدراسة العلمية والعملية:
تنبع أهمية دراسة موضوع التعديل الدستوري وضوابطه
الشكلية والموضوعية من طبيعة الموضوع نفسه نظرا لما يكتسيه من چدة وآنية سواء على
المستوى الداخلي أو الإقليمي بحكم الحركية السياسية التي تعرفها الأنظمة السياسية
العربية في إطار ما يسمى بالربيع العربي أو حتى على المستوى الدولي نظرا للارتباط
المباشر بين المبادئ الديمقراطية والإصلاح الدستوري. ففي الماضي انحصر الاهتمام
بالدستور والدستورية لدى نخب فكرية وحقوقية وقانونية
وسياسية
محدودة، لكن الموضوع أصبح اليوم مطروحا على نحو شعبي لدى أوساط واسعة2
وموضوع التعديل الدستور من المواضيع الهامة
والخطيرة في القانون الدستوري نظرا لتداخلة مع موضوعات وضع وإلغاء الدستور، ونظرا
لما يمكن أن يشكله من خطورة على الحياة الدستورية والسياسية للأنظمة السياسية وعلى
حقوق وحريات الأفراد.
وتكمن أهمية البحث العملية في الكشف عن المساطر والإجراءات
التي يجب اتباعها لتعديل الدستور المغربي، وتحديد الجهات المختصة بهذا التعديل
والمراحل التي يجب أن يقطعها مشروع التعديل لدستوري حتى يصبح نافذا. كما يسعى
البحث إلى محاولة جس نبض النصوص الدستورية التي يحظر تعديلها بصفة صريحة في ثنايا
الوثيقة الدستورية وكذا تلك المواضيع التي يستنتج من ثباتها في الدستور المغربي
منذ 1962 أنها غير قابلة للتعديل. كما يسعى البحث إلى الكشف عن دور القضاء
الدستوري في عملية التعديل الدستوري.
الفصل
التمهيدي :نتعرض من خلاله إلى معنى التعديل الدستوري وظروف نشأته، ومحاولة التمييز
بينه وبين بعض المصطلحات المشابهة من قبيل وضع الدستور وإلغاء الدستور ومراجعة
الدستور، كما نتطرق إلى أنواعه والأسباب الداعية إليه وبعض العراقيل التي تعترضه
وتقف أمامه.
الفصل الأول :نقف من خلاله على دراسة
الأحكام والقواعد والضوابط الشكلية المتعلقة بعملية التعديل الدستوري في المغرب،
من خلال تحديد الهيات المختصة بعملية اقتراح تعديل الدستور المغربي عبر مختلف
الدساتير المغربية المتعاقبة، وتحديد مختلف الإجراءات التي تتبع بعد اقتراح
التعديل من الهيئة المخولة قانونا بذلك، وصولا إلى عملية إقرار التعديل الدستوري ،
محاولين في نفس الوقت مقارنة هذه الإجراءات مع تجارب أخرى في بعض الأنظمة السياسية
ومبرزين الاجتهادات الفقهية التي تعالج هذا الموضوع.
الفصل
الثاني: ننتقل في هذا الفصل إلى تسليط الضوء على المواضيع والنصوص الدستورية التي
حرم الدستور المساس بها عن طريق التعديل الدستوري ، ومستحضرين بالتوازي مع ذلك
تجاربا مقارنة لتوضيح وتفسير تلك النصوص الدستورية المحظور تعديلها. كما نتطرق في
هذا الفصل إلى محاولة إبراز دور القضاء الدستوري في ضمان دستورية القوانين
الدستورية (مشاريع التعديل الدستوري) ومدى احترام سلطة التعديل الدستور للنطاق
الذي رسمه لها
الدستور.
تحميل PDF