مقدمة:
إن احتكام المجتمع الدولي إلى إعمال القانون وإنشاء جهاز
قضائي مستقل يخول له اختصاص النظر في كل ما قد يمس بسلامة وأمن المجتمع الدولي،
يقتضي احترام مبدأ الشرعية. وهو من أهم الضمانات التي من شأنها كبح جماح
المجتمع الدولي في العقاب ومنعه من التدخل جنائيا خارج الحدود والأوضاع التي
يعينها القانون. ويتأتى المضمون الجوهري لمبدأ الشرعية الجنائية من أنه لا جريمة
ولا عقوبة إلا بنص سابق أي أن القانون وحده هو الذي يحدد الأفعال المعتبرة جرائم
والعقوبات المقررة لها من هنا فقد عرف هذا المبدأ بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات،
وإن كانت رغبة المجتمع الدولي متمثلة في المطالب التي تعالت لإنشاء محكمة جنائية
دولية بمعاقبة المجرمين فإن ذلك يجب ألا يخرج عن مبدإ الشرعية، وذلك بتخويل قضاء
جنائي دولي اختصاص موضوعي محدد للجرائم التي يمكنه النظر فيها وهو ما تم تكريسه
بمقتضى المادة الخامسة من النظام الأساسي لروما لسنة 1998، التي حددت الاختصاص
الموضوعي للمحكمة الجنائية الدولية في أربعة جرائم هي: جريمة الإبادة الجماعية
والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، ثم جريمة العدوان التي أثارت مجموعة من
الإشكالات، مما جعل اختصاص المحكمة منحصرا في ثلاث جرائم فقط، ويرجع السبب في ذلك إلى عدم توافق المجتمع الدولي وعدم
إجماعه حول تعريف ومفهوم محدد للعدوان.
وإذا كانت المحاكمات السابقة لنظام روما الأساسي بدءا من
المحاكمة التي جاءت بعد الحرب العالمية الأولى لمعاقبة مجرمي الحرب وفق للمقتضيات
معاهدة فرساي، ثم تلتها محاكمة نورمبرغ والتي بدأ التخطيط لها منذ 1943 والتي تضمن
اختصاصها الموضوعي ثلاثة جرائم، هي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم ضد
السلام، تلتها محكمة طوكيو والمحكمتين المؤقتتين الكل من يوغوسلافيا السابقة وروندا.
وإن كان من نتائج مبدأ الشرعية عدم معاقبة المجرمين بأثر رجعي فإن هذه المحاكمات
لم تحترم هذا المبدأ مطلقا، لكن مع تطور قواعد العدالة الجنائية الدولية صار لابد
من تكريس هذا المبدأ وهو ما تم إعماله فعلا سنة 1998 بمقتضى نظام روما الأساسي في
مادته الخامسة التي أضافت جريمة العدوان في نطاق اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.
وهكذا لم يعد بالإمكان معاقبة الدول أو المنظمات أو الأفراد على الأفعال التي
ارتكبوها قبل دخول نظام روما حيز النفاذ، وإن كان البعض يرى في ذلك إفلات من
العقاب، فإن المدافعين عن هذا المبدأ يرون فيه تشجيعا للدول على الانضمام لنظام
روما.
ومن هنا تظهر أهمية الموضوع على المستوى العملي الواقعي
التي تتجلى في قصور الاختصاص الموضوعي للمحكمة الجنائية الدولية في ثلاثة جرائم
دون تفعيل جريمة العدوان، أما أهمية الموضوع من الناحية العلمية النظرية فتتجلى في
قلة الكتابات الوطنية التي تناولت الاختصاص الموضوعي للمحكمة الجنائية الدولية وإشكالاته،
وعليه سنحاول قصر دراستنا على تلك الجرائم المنصوص عليها بالمادة 5 من نظام روما
الأساسي، والتي تشكل الاختصاص الموضوعي للمحكمة الجنائية الدولية ، كما سنتطرق
لإشكالات جريمة العدوان وأهم المستجدات بشأنها، وذلك من خلال معالجة الإشكالية
التالية:
إلى أي حد
استطاعت المحكمة الجنائية الدولية من خلال الاختصاص الموضوعي الممنوح لها الحفاظ
على السلم والأمن الدوليين؟
وهو ما سنحاول الإجابة عليه وفق التصميم
التالي:
v
المبحث الأول: الاختصاص الموضوعي للمحكمة
الجنائية الدولية
v
المبحث الثاني: جريمة العدوان بين إشكالات
التعريف والتطبيق ومستجدات المؤتمر الاستعراضي (كمبالا)
---- التالي>