مقدمة
تشكل الدساتير في إطارها العام، البناء الهندسي للنظام السياسي، الذي يتضمن أساسا الحقوق والحريات العامة، كما وتتجسد من خلالها الشرعية والمشروعية وأساس سيادة القانون التي تهدف في مضمونها إلى حماية حقوق الإنسان وحرياته، وبذلك نجد أن الدستور يعد الحامي والجسر الذي يربط حقوق الإنسان وحرياته بالضمانات التي يحتاجها الإنسان من خلال حماية الدستور له إن أغلبية الدساتير في الدول الديمقراطية، تشكل ضمانة أساسية لحقوق الإنسان، لأن هذه الدساتير تحتل أعلى مرتبة في القواعد
القانونية في كل دولة، وهي تبين في موادها الدستورية، نظام الحكم، وحقوق الأفراد
وواجباتهم، والقواعد التنظيمية للسلطات العامة من حيث التكوين والإختصاص، والعلاقة
فيما بينها، والمبادئ الأساسية الضامنة لحقوق الإنسان أو المواطن ولاسيما مبدأ فصل
السلطات، والرقابة على دستورية القوانين
إن تبني
سياسة حقوقية في بلد ما يعد مدخلا أساسيا لبناء صرح الديمقراطية ودولة الحق
والقانون وحماية حقوق وحريات المواطنين والمواطنات، فلا يمكننا الحديث عن
الديمقراطية وصيانة الحقوق والحريات دون نهج سياسية حقوقية واضحة المعالم تنص على
الضمانات الأساسية لحقوق الإنسان وحرياته، وإعداد السياسة الحقوقية تنخرط في
إعدادها جل مكونات المجتمع، من مؤسسات رسمية وأحزاب السياسية ومجتمع مدني ومنظمات
حكومية وغير حكومية وهيئات وطنية فمسألة حقوق الإنسان باتت موضوعا يمس حياة كل الشعوب والدول وتطورها بإختلاف حضارتها ومواقعها الجغرافية وأنظمتها السياسية والإقتصادية والإجتماعية، وقد حظيت حقوق الإنسان بإهتمام عالمي وإقليمي تمثل في بلورة وصياغة هذه الحقوق وتأكيد كفالتها في إعلانات الحقوق والمواثيق والإتفاقيات
الدولية العالمية والإقليمية، كما حظيت حقوق الإنسان بإهتمام كافة الدول على
إختلاف إتجاهاتها وبغض النظر عن نظام الحكم فيها، فإتجهت إلى إقرارها في دساتيرها
الوطنية، وتختلف الدساتير في معالجتها لحقوق الإنسان تبعا التباين
الظروف السياسية والإقتصادية والإجتماعية التي وضعت في ظلها، وتبعا لتباين
الأيديولوجيات التي آمنت بها وتعد حقوق الإنسان التي أقرتها معظم الدساتير في العالم في إطار يضيق أويتسع مداه بنسبة ديمقراطية النظام أوتسلطه، ولا تقتصر الدول على تضمين دساتيرها نصوصا بحقوق الإنسان فحسب وإنما تعمل على تقرير الضمانات التي تكفل ممارسة هذه الحقوق، ضمانات تحول قدر الإمكان من دون اهدارها. إن الإنسان لا يكون إنسانا إلا بحقوقه، فإن إمتلكها كلها كان كامل الإنسانية وإن إنتقص من أحدها كان في ذلك إنتقاص من إنسانيته، وكلما زادت نسبة الحقوق المسلوبة منه كان الإنتقاص من إنسانيته بنسبة ذلك المقدار،
ولعل البشرية بدأت مبكرا تدرك مدى ضرورة سمو الحقوق الإنسانية، مما جعلها تسعى دون إنقطاع إلى تحقيق كرامة الإنسان بإقرار حقوقه وحرياته، ومما لا شك فيه أن الوصول إلى هذه الغاية لم يكن سهلا فقد إستلزم الكفاح ضد الإضطهاد والظلم، والثورة على الحكام المستبدين منذ عصور خلت مما أدى ذلك إلى نتائج ملموسة، خاصة بالنسبة إلى الشعوب التي بذلت أرواحها في سبيل إقرار حقوقها وحرياتها من هنا بدأ خطاب حقوق الإنسان يتأصل وينمو منطلقا من أروبا الغربية، وأول
وثيقة سياسية يحسبها رجال الفكر على هذه الحقوق هي العهد الأعظم الذي يعترف فيه
ملك إنجلترا جون سنة 1215 بحقوق المواطنين، ثم تلته سلسلة من المواثيق والإعلانات
كان أهمها، قانون الحقوق المترتب عن الثورة الانجليزية سنة 1688 ضد الملك جيمس
الثاني، دستور الولايات المتحدة الأمريكية الصادر سنة 1778 بعد استقلالها، وإعلان
الحقوق الإمريكي، إعلان حقوق الإنسان والمواطن 1789 على ضوء الثورة الفرنسية والذي
شكل ثورة إستمدت أفكارها ومبادئها من المناخ الفكري السائد بفرنسا أنذاك، وهوما
سيحدث تغييرا جذريا في المجتمع الفرنسي وحمل رياح التغيير للمجتمع الدولي، إلى أن
تم إقرار ميثاق الأمم المتحدة 1945 الذي أولى إهتمام خاص بقضية حقوق الإنسان، إذ
أكد على تعهد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بإتخاذ كل الإجراءات الضرورية لتعزيز
الإحترام الدولي لحقوق الإنسان دون تمييز على أساس الجنس أو اللغة أو الدين ومع
ذلك يمكن التأكيد على أن معظم المواثيق الدولية
المقررة
لحقوق الإنسان، قد صدرت بعد ذلك إنطلاقا من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة
1948، ووصولا إلى مئات الإتفاقيات الدولية التي شكلت مكتبة ضخمة أصبحت مرجعية
المعظم حركات التحرر، بل ولكل أفراد البشرية للمطالبة بالحقوق والحريات.
والإهتمام بوضع وإعداد سياسة حقوقية تعنى
بالحريات الأساسية وحقوق الإنسان في بلد كالمغرب، لم يأتي من فراغ بل السياق هو
الكفيل بإنتاج المعنى، فقد جاء هذا الإهتمام نتيجة الإنتهاكات الجسيمة لحقوق
الإنسان، وهذا ما أكدته مجموعة من التقارير التي صدرت في فترة التسعينيات من القرن
الماضي، وخصوصا تقرير منظمة العفو الدولية حول وضعية حقوق الإنسان، حيث كشفت عن خروقات صارخة لحقوق الإنسان ومعتقلات رهيبة لا يعترف بها المغرب وعن معاملات لا إنسانية كان يتعرض لها المعتقلون وبالخصوص السياسيون من إضطهاد وقمع ممنهج وحالات إستنطاق تحت التعذيب لنزع الإعترافات.
أمام هذا
الوضع المتردي لحقوق الإنسان وتوالي التقارير النقدية للوضعية الحقوقية بالمغرب،
شهد المغرب نوعا من الإنفراج في المسألة الحقوقية، وتتلخص مؤشرات هذا الإنفراج
في إعتراف النظام وإلتزامه بما تقتضيه المواثيق الدولية من مبادئ وحقوق وواجبات،
وتأكيد تشبثه بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا، وهي الصياغة الجديدة التي
أعلن عليها الدستور المعدل لسنة 1992 في تصديره، علاوة على إطلاق سراح المعتقلين
السياسيين والإفراج عن المختطفين قسرا وعودة المنفيين وذلك في غشت 1991 ويوليوز
1993 وماي 1994 ، كما تمت مراجعة القوانين الخاصة منها والعامة كقانون الإنتخابات
وقانون الصحافة وقانون الأحزاب، وقانون المسطرة الجنائية، وفي مرحلة لاحقة قانون
الأسرة، وقانون الجنسية، وإنشاء المجلس الإستشاري لحقوق الإنسان، وكذا إنشاء وزارة
مكلفة بحقوق الإنسان، وإحداث المحاكم الإدارية، إضافة إلى إفراد دستور 2011 الباب
الثاني للحريات والحقوق الأساسية إن المجهودات الداخلية التي بذلها المغرب في إتجاه إقرار دولة الحق والقانون، قد ترافقت بمصادقته على مجموعة من المعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، منها من
صادق
عليها بدون تحفظ، ومنها من أيدي حولها تحفظات إعتبارا لكونها لا تلائم القانون
الداخلي المغربي. وقد واصل المغرب خلال سنة 2011، تعزيز منظومته
القانونية والمؤسسات المتعلقة بحماية حقوق الإنسان والنهوض بها، وذلك من خلال
إجراء مجموعة من الإصلاحات المتعلقة بالتكريس الدستوري لحقوق الإنسان كما هي
متعارف عليها عالميا، وتعزيز الإطار المؤسساتي الوطني المعني بحقوق الإنسان
والحكامة والتنمية المستدامة. حيث كرس مبادئ وضمانات حقوق الإنسان التي أقرها
القانون الدولي لحقوق الإنسان، منذ صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10
دجنبر 1948، كما أدمج التوصيات الوجيهة لهيئة الإنصاف والمصالحة، ويمثل مجموع ما تم إدماجه في الوثيقة الدستورية إعترافا وإقرارا بالمبادئ والضمانات والحقوق التي
باتت تشكل أساسا ودعامات بالنسبة لعمل السلط الدستورية، وعلى مستوى التشريعات
والإستراتيجيات والسياسات العمومية والخطط وبرامج العمل الوطنية
وإذا
كانت الدساتير الداخلية للدول، قد تكفلت ببيان حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، فإن
مسألة التعرف على هذه الحقوق والحريات ليست مشكلة، إنما تكمن المشكلة في انتهاك
هذه الحقوق والحريات على ساحة الواقع، مما يقتضي الأمر إيجاد الضمانات المناسبة
لحماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية وضمان عدم انتهاكها، وتأتي أهمية هذا
الموضوع، من خلال الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه والذي يتمثل بإيجاد الوسائل المناسبة
التي من شأنها أن تضمن تمتع الأفراد بكافة حقوقهم وحرياتهم الأساسية وتضمن كذلك
عدم إنتهاك هذه الحقوق والحريات، فضلا عن ذلك فإن هذه الضمانات تهدف إلى إرجاع
الحقوق إلى أصحابها في حالة إنتهاكها أوالإنتقاص منها. إن دولة الحق والقانون قد تم تكريسها على مستوى إعلان المبادئ والترسانة القانونية، وذلك منذ السنوات الأولى للإستقلال لكن على مستوى الواقع هناك تجاوزات وإنتهاكات عبر تحوير وظائف المؤسسات السياسية ولكي تبلغ هذه الدراسة الغاية المرجوة منها، فإن
بحث هذا الموضوع سيتم من خلال الحديث عن دور المؤسسات والهيئات الدستورية في حماية حقوق الإنسان والنهوض بها.
أهمية
الموضوع :
تبرز أهمية الموضوع من خلال اعتبار حقوق الإنسان من أكثر المجالات التي تستأثر بالإهتمام على المستوى الوطني والدولي، إن هذا الاهتمام الدولي يعد دليلا على مقدار إمتداد نطاق العلاقات الدولية ويخرجها بذلك من النطاق الضيق الذي يحكم علاقات الدول فيما بينها ليشمل ما تتضمنه أوما يجب أن تتضمنه هذه العلاقات من الإهتمام بالإنسان الذي هو غاية كل مجتمع ويهيمن على مظاهر التطور المختلفة في مجال حقوق الأفراد ركيزة عامة تتمثل في الطابع الإنساني للقانون الدولي. إن الكتابة في موضوع حقوق الإنسان، لا تعتبر من حشو الكتابة أو مادة تختار المناسبات فموضوع حقوق الإنسان لايزال موضوع الساعة وسيبقى كذلك على الرغم مما كتب فيه من أبحاث، وما أسفرت عنه المؤتمرات من توصيات، فهو موضوع يلازمنا في كل حين.
تعد ضمانات الحقوق، حجر الزاوية في حماية الحقوق من التعسف وإنتهاكات
جميع السلطات، كما أن تحقيق حماية حقيقية للحقوق رهين بوجود ضمانات دستورية لما
يحتله الدستور في الهرم القانوني لأي دولة ما، وأصبح مطلوبا من المغرب العمل على
الرفع من دور المؤسسات الدستورية في حماية حقوق الإنسان كما أنه إذا كانت الحماية
القانونية للحقوق، بإقرارها دستوريا وتنظيمها قانونيا يعد ضمانة أساسية لاحترامها،
فإن الحماية الفعلية والواقعية لا تتحقق إلا بتمكين الأفراد من الضمانات الأساسية
التي تضمن ممارستهم لكافة حقوقهم في وجه كل تعسف وإنتهاك غير مشروع قد يطالها.
إشكالية
الموضوع :
نرى من المفيد أن نقارب موضوع بحثنا هذا لنزكي
الطرح أكثر بالإقتصار فقط على أهم الهيئات والمؤسسات الوطنية بالإضافة إلى
المؤسسات الدستورية، بحيث أننا نحاول جهد المستطاع أن نلفت الإنتباه بتسليط الضوء
والوقوف على أهمية الآليات والمؤسسات التي تترجم حقوق الإنسان، من بوابة واسعة
ومنظور منفتح، وكذا الإحاطة بدور تلك المؤسسات التي تقطع الشك باليقين، وفي غمرة
إستعراضنا لهذه التجليات تثور الإشكالية الأتية حول : مدى نجاح المؤسسات والهيئات
الوطنية والمؤسسات الدستورية المعنية بحماية حقوق الإنسان في تحقيق أهداف الإصلاح
الدستوري وتفعيل مقتضياته في هذا المجال ؟
تطرح هذه الدراسة عددا من التساؤلات وتحاول
الإجابة عليها وذلك كالتالي :
ما هي وضعية السياسة الحقوقية بالمغرب؟
إلى أي حد يساهم البرلمان في المجال التشريعي المرتبط بالسياسة الحقوقية، من خلال
الحصيلة البرلمانية للولاية التشريعية التاسعة ؟
إلى أي حد إستطاع القضاء الدستوري رفع لواء مسألة حقوق الإنسان عبر حمايته لها؟
إلى أي
حد استطاع المغرب الحفاظ على الحقوق والحريات من خلال أحداثه للمجلس الوطني للحقوق
الإنسان ؟
وما مدى تقيده بمبادئ باريس؟
كيف يمكن لمؤسسة الوسيط من ضمان الأمن القانوني والقضائي لحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا؟
وماهي التوجهات الجديدة لهذه المؤسسات الحقوقية في التعامل مع انتهاكات حقوق الإنسان لا على مستوى التنظيم أوالإختصاص؟
كل هذه
المحاور والعناصر والنقاط التي أوردناها في سياق استعراضنا لخطة البحث، ستتم
معالجتها وفق التصميم التالي:
الفصل الأول: دينامية السياسة الحقوقية في المغرب
المبحث الأول: إنخراط المغرب في المنظومة الكونية الحقوقية
المطلب الأول: التفاعل مع المنظومة الدولية لحقوق الإنسان
الفرع الأول: أهداف الاستعراض الدوري الشامل والمنهجية المعتمدة في إعداد تقريره
الفرع الثاني: مداولات عملية الاستعراض وعرض الحالة من جانب الدولة الموضوع الاستعراض
المطلب الثاني: الإتفاقيات والمعاهدات الدولية التي صادق عليها المغرب
الفرع الأول: الإتفاقيات العامة.
الفرع الثاني: الإتفاقيات الخاصة.
المبحث الثاني: الإطار القانوني لحماية حقوق الإنسان والنهوض بها.
المطلب الأول: قانون الحريات العامة
الفرع
الأول: حرية تأسيس الجمعيات والتجمعات العمومية
الفرع الثاني: حرية تأسيس النقابات
وقانون الصحافة والنشر
المطلب الثاني: دستور 2011.
الفرع
الأول: حقوق الإنسان كما يكرسها دستور 2011
الفرع الثاني: مكانة المعاهدات
الدولية في الدستور المغربي
الفصل الثاني: ضمانات حماية حقوق الإنسان بالمغرب
المبحث الأول: الضمانات التشريعية والقضائية في حماية حقوق الإنسان بالمغرب .
المطلب الأول: آليات عمل السلطة التشريعية في مجال سياسة حقوق الإنسان.
الفرع
الأول: الحماية الدستورية للبرلمان في سن التشريعات المتعلقة بحقوق الإنسان. الفرع
الثاني: الحصيلة البرلمانية في مجال حقوق الانسان.
المطلب الثاني: الرقابة الدستورية
على الحقوق الأساسية بالمغرب.
الفرع الأول: حماية الحقوق والحريات الأساسية من
خلال تنظيم وتشكيل المحكمة الدستورية وإختصاصاتها.
الفرع الثاني: دور القضاء الدستوري في حماية الحقوق والحريات.
المبحث الثاني: دور الهيئات والمؤسسات المستقلة الوطنية في التأثير على السياسة الحقوقية.
المطلب الأول: دور الهيئات والمؤسسات المستقلة في حماية حقوق الإنسان.
الفرع الأول: كرونولوجية تطور الهيئات المستقلة.
الفرع الثاني: وضعية الهيئات
المستقلة في الهندسة الدستورية.
المطلب الثاني: الإطار التطبيقي أو العملي.
الفرع
الأول: علاقتها بالمؤسسات الدستورية.
الفرع الثاني: علاقتها بالرأي العام.
خلاصة.
تحميل PDF