مقدمة
ترسي الدولة الحديثة دعائمها على مبدأ الشرعية، بما يفيد أن تخضع مؤسساتها وهيئاتها ومواطنوها لأحكام القانون، وألا تخرج عن حدوده، ومن مقتضيات هذا المبدأ أن تحترم الإدارة في تصرفاتها أحكام القانون، وإلا غدت أعمالها غير مشروعة وتعرضت للبطلان. وغالبا ما تتفق الدول على أن هذا الخضوع هو الذي يمنح تصرفاتها طابع الشرعية ويضعها في مصاف الدول القانونية إن الإدارة تنتج يوميا آلاف القرارات وتقيم على مجموعة أعمال وتصرفات، وهذا قد يؤدي إلى خروجها عن هذا المبدأ، بما ينتج عنه مخاصمة الأفراد لقراراتها. وقد أوجدت الدول - خاصة الدول الديمقراطية البرلمانية - مجموعة آليات قانونية كضمانات لحماية حقوق وحريات الأفراد، وهذه
الآليات قد تكون إدارية أو قضائية لترسيخ مبدأ الشرعية وتكريس سيادة القانون.
1111111111111111111
إن دولة الحق والقانون تفرض "أن تخضع الإدارة في نشاطها إلى رقابة مستمرة"ومن اللازم أن تكون هناك رقابة تتعدد أشكالها وصورها وتتنوع آلياتها والجهات التي من المفروض أن تنهض بهذه الرقابة في ظل دولة المؤسسات، منها ما يتم بواسطة الإدارة نفسها لمراقبة نشاطها الإداري ويعرف هذا النوع بالرقابة الإدارية إلى جانب أنواع أخرى ذات أهمية قصوى والإدارة
المغربية لا تختلف عن أي إدارة في أية دولة، وهي تحتكم إلى هذه الشرعية في تصريف
قرارتها ومواقفها، وإلا بسط القضاء الإداري رقابته على أعمالها، في الحالات التي
يخاصم فيها المعنيون هذه القرارات والتصرفات سواء كانوا أشخاصا ذاتيين أو معنويين،
بما يؤدي إلى إلغاء قراراتها في حال ثبوت مخالفتها لمبدأ الشرعية مع ما للأمر من
تكلفة وطول مسطرة
لذلك وجدت آلية أخرى ذات طبيعة إدارية، بحكم استحالة عرض كل القضايا على القضاء الإداري وهذه الآلية هي "التظلم الإداري" أو "الطعن الإداري - Recours Administratif"، بما يؤدي إلى تراجع الإدارة عن قراراتها المخالفة للشرعية، وبما يضمن حقوق الأفراد واستقرار المراكز القانونية دون اللجوء إلى القضاء.
إن التظلم الإداري الوارد ضمن التشريع المغربي هو مرتبط بالطعن الإداري على مستوى التشريع الفرنسي، والذي له صلة أيضا بالتظلمات التي كانت ترفع إلى الملك في فرنسا باعتباره رئيس الإدارة العامة Chef de L ' Administration Générale، ضمن تقليد مغرق في القدم، إضافة إلى أن
الملك كان يعطي عن نفسه صورة رمز للعدالة، عملا بالمبدأ الذي كان سائدا وقتها « کل
عدالة مصدرها الملكه وإن إرساء هذه الآلية ارتبط بمسار تشريعي طويل لعل أبرز
مراحله هو مرحلة ما بعد الثورة وظهور الإدارة القاضية"، إلى أن غير حكمين في
قضيتين شهيرتين مسار القضاء الإداري والمنازعات الإدارية، وهما قضيتي
"بلانكو" وكادو" اللتين كان لهما الفضل في تشكل القضاء الإداري
الفرنسي
إلى غاية
صدور مرسوم 20 دجنبر سنة 1953 والذي جعل اختصاص مجلس الدولة الفرنسي محددة على
سبيل الحصر منذ أول يناير 1954، وأن تكون المحاكم الإدارية التي كانت تسمى بمجالس
الأقاليم صاحبة الولاية العامة في نظر المنازعات الإدارية
وفي المغرب ظهر الطعن الإداري إلى جانب الطعن
القضائي ضمن نصوص قانونية مختلفة تؤطرهما معا، ليرتبطا زمن الحماية الفرنسية بشكل عضوي ووظيفي بالقوانين الفرنسية التي تم تنزيلها بالمغرب لكن ضمن إطار ضيق يخدم مصالح الحماية الفرنسية، مثل ظهير 11 نونبر 1916 والذي تضمن مادة وحيدة تتيح إمكانية الطعن القضائي في أحكام قاضي الصلح أمام محكمة النقض الفرنسية وذلك بسبب الشطط في استعمال السلطة وخرق القانون، وهذا شرط تعجيزي بالنسبة للمغاربة ثم ظهير 8 أكتوبر 1919 المتعلق بخلق طريق قضائي يسمح لمفتشي المصالح القضائية بالطعن في أحكام القياد والباشوات، ولكن ليس بسبب الشطط باستعمال السلطة وخرق القانون كما هو الشأن بالنسبة النظرائهم الفرنسيين، وإنما بصيغة مخففة جدا "الخطأ في تطبيق القانون Fausse application de la loi" أو خطأ بين Erreur
manifeste، إذ يتلقى المفتشون الشكايات ويفحصونها قبل أن تسلك طريقها نحو المحكمة العليا، بما يدل على أن النصوص التي أطرت الطعون القضائية كانت أوضح لكن بالنسبة
للطعون
الإدارية فقد تناولها ظهير 22 نونبر 1924 من خلال الفصل الثالث والرابع والذي عرف مجموعة من التغييرات إلى جانب ظهير 21 غشت 1935، بما يدل على أن المشرع زمن الحماية أولى أهمية للطعون ذات الطبيعة المالية. لكن قبل الحماية لم يكن معروفا تماما النزاع الإداري ومخاصمة القرارات الإدارية، إذ فقط في إطار العرف كان يسمح لوزير
الشكايات بجمع وتنظيم الشكايات ضد القرارات الصادرة عن القضاء والسلطة المحلية
والمركزية ضمن ما يعرف بجهاز «البنيقة، حتى دخول الحماية الفرنسية، بما يفيد أنه تظلم تسلسلي Recours hierarchique إلى جهاز وزاري يمكن وصفه بأنه ذو طبيعة استعطافية. وإلى غاية صدور الظهير الشريف رقم 1 . 57 . 223 المتعلق بالمجلس الأعلى سنة 1957، وتنصيصه على إلزامية الطعن الإداري (التظلم). ضمن ما ورد في الفصل الأول عن
اختصاصات المجلس الأعلى ، والفصل الرابع عشرة المتعلق بالقواعد الخاصة برفع
الدعاوی المتعلقة بالشطط في استعمال السلطة وبعدم قابلية أي طلب بإلغاء مقرر صادر
عن السلطة الإدارية من أجل الشطط في استعمال السلطة، إلا إذا تقدمه طعن إداري في
المقرر المذكور لدى السلطة الإدارية التي تعلو مباشرة تلك السلطة التي صدر عنها،
وإن لم توجد سلطة أعلى يقدم الطعن الإداري بصورة استعطاف لإعادة النظر في المقرر
إلى السلطة التي أصدرته بنفسها، وهذا الطعن الإداري التمهيدي يجب أن يقدم داخل أجل
شهر ابتداء من تاريخ نشر المقرر المطعون فيه أو تاریخ تبليغه.
وبعد ست سنوات من انعقاد المؤتمر الدولي الرابع
للعلوم الإدارية بمدينة دبلن سنة 1968 لدراسة كيفية حماية الأفراد في مواجهة
الإجراءات الإدارية بغير الطريق القضائي، وحدوث اهتمام واسع من طرف الفقه بموضوع "الطعن الإداري" داخل المنظومة الأوربية، وصدور تقرير مهم يرصد هذه
الطعون برئاسة العميد Jean - Marie Auby 27 سنة 1971، سيطبق المغرب رزنامة إصلاحات سنة 1974 وسيصدر قانون المسطرة المدنية ، ليتم استبدال مصطلح "طعن" بمصطلح "تظلم" بما للأمر
من دلالة
لغوية وقانونية والانتقال بذلك من "طعن إلزامي - Recours obligatoire" وفق القانون المتعلق بالمجلس الأعلى،
إلى "تظلم اختياري - Recours
facultatif"
بناء على ما ورد في الفصل 360 من الظهير الشريف بمثابة قانون رقم 1
. 74 . 447 بتاريخ 28 شتنبر 1974 بالمصادقة على نص قانون المسطرة المدنية، وليأتي القانون رقم 41 90 المحدث بموجبه محاكم إدارية لينسخ نفس الفصل
في مادته 23. إن التظلم الإداري في القانون المغربي، يحتاج إلى
تسليط الضوء عليه، وعلى النظام القانوني المؤطر له والذي تقوم عليه إجراءاته، وطرح
التساؤلات والإشكاليات المرتبطة به، حيث يختلط مفهوم التظلم الإداري بمفاهيم أخرى
(الطلب - الطلب السابق – الطلبات الاستعجالية..).
كما أن
التظلم الإداري في القانون العام يمتزج والطعن الإداري وهذا الخلط موجود على مستوى
التشريع المغربي، مع صعوبة في التمييز بين ما هو تظلم اختياري وما هو إلزامي - على
سبيل الاستثناء۔ بموجب نصوص قانونية خاصة، وبما يلتبس على من يقدم على تقديم تظلم
إداري وتحديد الجهة المتظلم إليها، وأحيانا المحكمة التي يمكن اللجوء إليها بعد
تقديم التظلم، كما أن هناك أزمة "تظلم إداري" في ظل تعدد المؤسسات التي تم إحداثها (الوسيط،
المجلس الوطني لحقوق الإنسان، الهيئة الوطنية للوقاية من الرشوة، الشكايات على
المستوى الإلكتروني ، إنشاء المحاكم الإدارية نفسها، التظلمات إلى القصر
الملكي....) وغياب الرابط بين التشريعات التي تؤطر هذه التظلمات، والاتجاه نحو
وسائل أخرى بديلة للتظلم، دون أن يصاحب ذلك أي تقييم لجدوى هذه الآلية في حل
النزاعات الإدارية ومخاصمة القرارات الإدارية غير المشروعة، مع تراكم غير مسبوق
للشكايات والتظلمات على مستوى المؤسسات ذات الصلة، بما يفيد أن هناك حاجة
ملحة لإعادة تنظيم العلاقة بين الإدارة والمواطن وتأطيرها وضمنها النظام التكميلي
لحل المنازعات الإدارية الذي هو "التظلم الإداري".
إن آلية التظلم الإداري (الطعن Recours) لها أهمية خاصة في حل المنازعات الإدارية
والدفع بالإدارة إلى الموضوعية في اتخاذ قراراتها، أضف إلى ذلك كونه شكلا من أشكال
الرقابة الإدارية وسبيلا لحل الخصومة الإدارية في مهدها وبالطرق الودية وتخفيف
العبء عن السلطة القضائية، إذ يستحيل حل جميع المنازعات عن طريق اللجوء إلى القضاء
الإداري أو العادي أو محكمة النقض، كما أن له في نفس الوقت آثار خطيرة أيضا على
ضياع حقوق المتظلمين، في حالة عدم احترام الآجال والإقدام على ممارسة الطعن
القضائي، بما يفرض دراسة هذه الآلية ونظامها القانوني في ظل ظهور أشكال جديدة من
التظلمات، واتجاه المشرع إلى تنويع الآليات ذات الصلة بالتظلم الإداري أخذا بعين
الاعتبار المستجد الدستوري من خلال الفصل 156 من دستور 2011، والذي نص صراحة على ضرورة الاستماع والإنصات لتظلمات Doléances المواطنين، وذلك أسوة بدساتير دول أخرى كانت سباقة إلى ذلك، حيث قامت بالتنصيص على هذا النوع من الأليات كطرق تكميلية لحل النزاعات الإدارية. وفي هذا يقول الفصل 156 من الدستور المغربي لسنة 2011 على أنه "تتلقى المرافق العمومية ملاحظات مرتفقيها، واقتراحاتهم وتظلماتهم، وتؤمن تتبعها."
إن هذه
الأهمية اليوم تبرز وظهور طرق جديدة لتسيير المرافق العمومية، من جهة على مستوى
النصوص القانونية التي أتت بعد دستور 2011، واحتوائها على أنواع عدة من التظلمات
بآجال وأساليب مختلفة وآليات بديلة لحل المنازعات. ومن جهة أخرى من خلال مقارنة
التشريعين الفرنسي والمغربي والتطبيقات القضائية للتظلم الإداري في النظامين،
وتضارب آراء الفقهاء الفرنسيين أنفسهم بما يفرض ضرورة التوضيح المفاهيمي والمصطلحي
لكل ما يتعلق بهذه الآلية. أضف إلى ذلك أن التظلم الإداري لم يكن موضوع رصد وتحليل
ودراسة مستفيضين من طرف الفقه المغربي والجامعة المغربية إلا في شقه الإلزامي المتعلق
بالضريبة أو تناوله بشكل عام، وأنه موضوع ليس بالبساطة التي يمكن للباحث تصورها
كما أن الدارسات التي أنجزت على مستوى الجامعات العربية يمكن التعامل معها بحذر
شديد لاختلاف مرجعيتها عن التجربة المغربية من جهة، وبحكم أن بعضها أخذت عن
التجربة الفرنسية مثل التجربة المصرية، لكن حدث تطور قانوني ومؤسساتي كبير على
مستوى التجربة الفرنسية في السنوات الأخيرة جعل من الصعب اعتماد تلك الدراسات
السابقة، بحكم هذا التطور الكبير الحاصل على مستوى التجربة الفرنسية، كما سنلمس
ذلك في موضوع هذه الدراسة.
إن
صعوبات جمة اعترضتنا في البحث، في ظل ندرة المراجع ذات الصلة على مستوى الجامعة
المغربية، وصعوبات ميدانية مرتبطة بطبيعة الإدارة المغربية فيما يخص الحصول على
المعلومة ، أضف أن هناك صعوبات اعترضتنا على مستوى ترجمة بعض المصطلحات التي وردت
ضمن قرارات مجلس الدولة الفرنسي أو الفقه الفرنسي، بغاية فهم الموضوع من حيث
حيثياته الواقعية والقانونية وفي رصد الطعون الإدارية على مستوى الممارسة الإدارية
الفرنسية وعلى مستوى الاجتهاد القضائي أيضا.
وسوف نحاول جاهدين دراسة التظلم الإداري، ومحاولة
الإحاطة بظاهرة التظلمات الإدارية في ظل ما يمكن وصفه ب"أزمة تظلم عام"،
في ظل التحديات التي تواجهها الإدارة المغربية، وذلك اعتمادا على المقترب القانوني
لتحديد موقع التظلم الإداري في الممارسة الإدارية المغربية، ومدى إسهامه في حل
المنازعات الإدارية بعيدا عن مسطرة التقاضي في القانون العام المغربي، وذلك في اتجاه
تجويد وتحسین العمل الإداري، وإيجاد آليات عملية وفعالة في تحسين علاقة الإدارة
بموظفيها من جهة، وبمرتفقيها من جهة ثانية.
وانطلاقا
من ذلك، يمكننا طرح مجموعة أسئلة نوردها على الشكل التالي:
- ماذا يقصد بالتظلم
الإداري ؟
- ما هو النظام القانوني للتظلم الإداري وماذا
عن تطبيقاته في المغرب، وكيف تتعامل الإدارة معه وما هو موقف القضاء الإداري من
التظلم الإداري ؟
- ماذا عن فعالية هذه الآلية، وهل من عقبات تحول
دون أن تعطي هذه الآلية آثارها في حل المنازعات الإدارية؟
والتحليل هذا الموضوع، والإجابة عن هذه الأسئلة
نطرح التصميم التالي:
مقدمة
الفصل الأول: مضمون التظلم الإداري كآلية تكميلية لحل المنازعات الإدارية
المبحث الأول: مضمون التظلم الإداري
المبحث الثاني: مرتكزات التظلم الإداري
الفصل الثاني: تطبيقات التظلم الإداري على مستوى القانون العام المغربي
المبحث الأول: تطبيقات التظلم الإداري
المبحث الثاني: تقييم التظلم الإداري